الذوق الرفيع ✨
وأهميته لكل ذي صنعة وحِرفة 🏗️

الذوق وأهميته، هاجسٌ يشغل بالي بين الحين والآخر، ومع ازدياد ما نراه من "السلق" و"التسليك" ومنتجات "مشِ الحال"، رأيت أنه من المهم أن أشارك بعضًا من قناعاتي في هذا الجانب، خصوصًا مع أثر الذوق الرفيع على مدير المنتج ومخرجاته...
لنتحدث في البداية بشكل شمولي أكثر، ولنبدأ بأهم سؤال:
ما هو الذوق؟
والحقيقة أن الجواب يختلف من شخص لآخر، لكن قرأت هذا التعريف ووجدته الأقرب لما اعتقده شخصيًا، وهو "تمييز الجمال في ذات الشيء"، فإن كان ذوقك عاليًا، ميّزت الجميل من القبيح، وقدّرت ما يُبذل من جهد، واستشعرت الاهتمام بأدنى التفاصيل. وعلى النقيض من ذلك، فانعدام الذوق يزيل أي معيار للجمال والجودة من قاموسك، فتتشرّب الأشياء كما هي ولا تبالي، وتصبح الأمور في عينك سواء، لا تعطي ما هو جميل وذا جودة قدره اللائق به، ولا تستشعر القبح والرداءة في ما هو رديء.
هل الذوق الرفيع فعلًا مهم؟
وهذا السؤال حتمًا قد أتى على أذهان بعضكم، هل فعلًا يجب علينا كلنا أن نتحلّى بذوق رفيع؟
وجوابي هو نعم، على الأقل أن نسعى له، ولو لم نصل له... لكن يجب أن نبيّن أن الذوق الرفيع لا يعني حصرًا التركيز على الجماليات فحسب، ولكنها تنعكس على شتى الجوانب في الحياة، ومنها تتبيّن أهميته فعلًا، فعلى سبيل المثال...
جودة الحياة
الذوق الرفيع يجعلك تميّز بين المتقن والرديء، وبالتحديد، جوانب الإتقان في الشيء وجوانب الرداءة في غيره... وقد تظن أن هذا الشيء بديهي، ولكن هذه التجربة ستبيّن لك خلاف ذلك...
تجربة عملية 🔬
جرّب أي منتج لا تشعر بأي مشاعر تجاهه، تستعمله لمجرد استعماله وتتعايش معه (على سبيل المثال: Jira)، ثم حاول أن تبيّن ما الذي أتقنه صانعو هذا المنتج، وما الذي خرج بصورة رديئة في وجهة نظرك...
قد تخرج بعدة نقاط، أو قد تكون المحصلة قليلة من وجهة نظرك، لا يهم، بعد أن تقوم بذلك، جرب منتج مشهور بحِرفته وجودته (على سبيل المثال: Linear)، حاول أن تقوم بنفس التجربة الأولى، واستشعر المنتج وتجربتك معه.
بعد ذلك، عد لاستعمال المنتج الأول، وستجد كيف أن نظرتك تغيرت، وما كنت تراه "عاديًا" أصبح بوجهة نظرك رديئًا، وفي المقابل، ما كنت تراه "متقنًا" أصبح بوجهة نظرك عاديًا.

والسبب هنا ليس بالضرورة أن المنتج الأول تحوّل في ليلة وضحاها لمنتج سيء (ربّما كان من البداية كذلك ولم تلحظ ذلك!)، ولكن التغيير حصل من وجهة نظرك، وذلك لأن معيار الجودة عندك ارتفع، وبارتفاعه تتحسن جودة حياتك، فلا تقبل وتتعايش مع ما هو رديء، بل تسعى للأفضل والأكمل حتى توفر جهدك وتعبك للمهم فعلًا، وقس على ذلك ما شئت.
وللتوضيح، فإن الناس فعلًا تميّز بين المتقن والرديء، ولكنها تميّزه في قرارة نفسها، وتفضّل الصمت على الحديث، والتجاهل على التدقيق، ولو أنهم واجهوا هذه الأحاسيس وعمِلوا بناءً عليها، لتَحسّنت جودة حياتهم للأفضل.
الثقة والحكمة
الذوق الرفيع يكسبك ثقة في قراراتك، ويمنعك من تكرار أخطائك، لأنك تعرف حقًا ما إذا كان الذي أمامك يستحق الاهتمام أم لا... من أدق البكسلات، إلى اختيار العبارات، إلى أدق أدق التفاصيل... كلها تتراكم في عقلك ووجدانك، وبمجرد حدسك وإحساسك، يتبيّن لك جودة الشيء واهتمامه، ويمكنك من الحكم على الكتاب من عنوانه (وتكون غالبًا على صواب).

وعندما يرى الناس علوّ ذوقك، ينجذبون إليك، ويضعون ثقتهم فيك، ويرجعون لك كخبير لأنك أصبحت قادرًا على التمييز بين الجيد والرديء، ومرّنت عضلة الذوق حتى أصبحت متمرسًا في ذلك، ويعرف الناس أنك ترى ما لا يرون، وتدرك ما لا يدركون.
الإتقان والإحسان
عندما ترتقي بذائقتك، وتتشرب عيناك كل ما هو ذا جودة عالية، ستصبح لا شعوريًا تسعى للإتقان في عملك، وتأبى أن تترك عملًا حتى تتقنه، بل وتسعى لما هو أبعد من ذلك، بأن تُحسن في هذا العمل وتختار أفضل السبل وأيسرها وأكملها، فقد قال نبينا ﷺ: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء».
وهذا الشيء تكتسبه اكتسابًا وتتشرّبه، فتجد أنك كلما صنعت، كلما اهتممت لأدق التفاصيل، وفكرّت بشتى الاستعمالات، واصبحت كل حركة تقوم بها مدروسة ولها هدف، ولوضعت العميل والمستخدم والمشتري نصب عينك في كل قرارٍ تتخذه، ولأصبحت أكثر فخرًا وثقةً بما تقوم به وما تصنعه.
وعندما تخرج الأمور عن السيطرة، وتخرج للناس بمنتج لا ترضى عنه، تضيق نفسك ويتكدر خاطرك، وتأسى وتتحسّر وكأنك في عزاء، لأن ذائقتك رفيعة لا ترضى بالرديء، فكيف ترضاه لغيرك؟! فتسعى في خطوتك القادمة ومنتجك القادم للتحسين والتطوير، وتستمر في ذلك، رافعًا معيار الجودة والإتقان والإحسان للكل.
ختامًا...
الارتقاء بالذائقة رحلة لا تنتهي، والبشرية كلها تسعى لترفع معيار الذوق والجمال والكمال يومًا بعد يوم، فما كان بالأمس "هبّة"، أصبح اليوم "لحجي"، ويبقى الهدف هو الارتقاء الدائم بالذوق، والسعي للإتقان، وهذا لا يُدرَك بالكِبر والعزلة.
خالط الناس، تعلّم من تجاربهم، مرّن عينك على تمييز الجيد من السيء، والرفيع من الرديء، خصوصًا إذا كنت ذا حِرفة وصناعة، أو كنت ممن يهتم ببناء المنتجات – مثل أغلب قرّاء هذه النشرة – فاحرص على أن تتعلم من غيرك، وترى وتجرّب وتحسّ بكل ما هو ذا جودة عالية، وأن تسعى لفهم ما يميّز هذه الأشياء فعلًا عن غيرها.
وانتشر الذكاء الاصطناعي التوليدي «GenAI» وقت كتابة هذا العدد، وانتشرت الصور والرسمات والتصاميم المصنوعة به، وانبهر الجميع بمستواها، ولكن عندما تراها بعينك، وتدقق في تفاصيلها، تجدها على حقيقتها: صورة صنعت بخوارزميات، لا يوجد وراءها أي اهتمام وإتقان وإحسان، نتيجة لا ترضي كل ذو ذائقة عالية.
والأمر لا يقف عند الذكاء الاصطناعي فحسب، بل على شتى المجالات، انتشر سوق "السلق" والمحتوى الرديء بين الناس، ويستهلكه الناس استهلاكًا، فلا يرتقي بفكرهم ولا ذائقتهم، ولا ينفعهم في دينهم ودنياهم، وهذا والله مؤسف كل الأسف.
واختم بأن على انتشار هذا السلق، وعمومه بين الناس، إلا أنني استشرف بأن المستقبل سيكون بإذن الله لمن اهتم بذائقته وارتقى بها، فأحسن في عمله، وأدرك ثمن وقته، وعمل واجتهد، وعلِم بأن السلق وسفاسف الأمور كما أنها تأتي بسرعة فإنها تذهب بسرعة ولن تدوم بإذن الله...

أكتب عن إدارة المنتجات، ومواضيع أخرى تهمني 🤔